التعليم في المرحلة الابتدائية أعتبره نزهة ورحلة جميلة في براري معشبة تجود بالنباتات البرية الجميلة الزكية ، كنت أعشق التدريس عشقًا كبيرًا ولا أذكر هذا العشق وأتذكره لأنني غادرته ؛ بل لأن التعليم من أمتع المهن وأجملها ، ولأنني أعمل وفق هذه النظرة فقد كنتُ أحمل ذكرياتِ الصباح مع الطلاب إلى بيتي لأقرأ من خلال كراسات التعبير والقراءة والقواعد خيال التلاميذ وتفكيرهم ، ولأنني بشر معرض لنوبات الألم والصداع والزكام إلا أن هذه الآلام العرضية لم تكن عائقًا أمامي لحمل دفاتر الصغار ، وفي ليلة باردة اشتد عليّ الزكام وبين يدي الدفاتر لكي أصححها بالقلم الأحمر كماهي العادة ،وكنت مع كل لحظة ألم أو رشح أدخل إصبعي في زجاجة الفيكس التي أمامي وأضع على أنفي الدهان ومابقي مسحت به حول فمي وأنفي وجبهتي ، انتهيتُ من التصحيح ووضعتُ الدفاتر في صندوقٍ صغير لأخذها في الصباح ، وفي الصباح لم تلفتْ انتباهي رائحة الدفاتر الفواحة فيكساً ، أخذتها وانطلقتُ نحو يوم دراسي جديد بطعم الزكام ، جاء موعد حصتي ،وزعتُ الدفاتر على التلاميذ واحدًا واحدًا وأنا أقول لهذا ممتاز ، وذاك عندك كذا وكذا ، حتى أتممتُ التوزيع ، انبرى واحد من الطلاب وكان أميزهم نجابة وذكاء فقال يا أستاذ : رائحةُ فيكسٍ في الدفاتر ، ضحك التلاميذ ببراءة فضحكتُ معهم ، فقلتُ لهم اشتد عليّ الزكام ولم يكن أمامي سوى معالجته بالفيكس وحتى لا أتأخر عليكم بالدفاتر ، أشرقتْ وجوه التلاميذ بكل جمال الإشراق ، وبقيت الدفاتر بنكهة الفيكس عدة أيام ، ذهبتْ تلك الأيام الجميلة ، كبر تلاميذي الصغار وتوزعوا في هذه الحياة المليئة بالأشجان ، ولا أزال أتذكر السبورة والطباشير والقلم الأحمر ورائحة الفيكس على دفاتر الإملاء والإعراب .